الجمعة، 30 يناير 2009

كانت أجسام دوناتللو تنطوي على طاقة عنيفة مكبوحة، وكانت أكثر موضوعاته تدور حول أبطال من الشباب اشتهر عنهم مقاومة البطش والطغيان بمفردهم كيوحنّا المعمدان وجوديت (يهوديت) وهي تحزّ عنق هولوفرنيس والنبي داوود. وكان تمثال داوود الذي ينتصب وحده بخوذته المزيّنة بالزهور في فناء قصر مديتشي أو تمثال عار طليق الحركة نُحِت في الغرب منذ العصر الكلاسيكي.


يوحنا المعمدان. كنيسة الدومو بسيينا.

يهوديت تحزّ عنق هولوفرنيس. متحف البارجيللو بفلورنسا.
داوود. أول تمثال عار طليق الحركة نحت في الغرب منذ العصر الكلاسيكي. المتحف القومي بفلورنسا.

وتسري في عروق هذا التمثال شاعرية رقيقة لم تظهر في تمثال "الصلع" على الرغم من أنه يرجع إلى نفس الفترة التي أعدّ الفنان خلالها التمثال الأخير.
وقصد دوناتللو أن يشكّل هذا التمثال ليشاهده الناس من جميع الزوايا، خارجاً بذلكَ على تقاليد التماثيل القوطية التي تنحت بغرض وضعها داخل الكوى أو لمجرد أن تكون حلية معمارية في المبنى. ويقف داوود في وضعة الواثق بانتصاره على خصمه جالوت، تقبض يده اليمنى على سيف وتمسك اليسرى بحجر، كما يوحي الوقار الكلاسيكي الطاغي على التمثال ووضعته وتجسيمه بتأثير النماذج المتأغرقة على دوناتللو. وثمة لمسات واقعية في الخوذة الشبيهة بقلنسوة الرعاة التوسكانيين تلقي على الوجه ظلّاً كثيفاً، كما تبرز خطوط الجسم بوضوح فتعكس بدورها شدّة مراس الفتى. على أن المفاجأة الرائعة التي تجلّت في هذا التمثال هي التجديد الذي أتى به دوناتللو واحتذاه غيره من بعده خلال عصر النهضة، وأعني به تحويل الملك العبراني إلى إله إغريقي، ولم لا وقد كان داوود في شبابه وسيماً جذاباً، وعلى نهج أبوللو قضى أول ما قضى على خصم مهول مرعب تحقيقاً لهدف نبيل، فضلاً عن أنه كان على غراره راعياً للشعر والموسيقى؟ وكانت صورة داوود المألوفة في فنون العصور الوسطى هي صورة الشيخ المسنّ الملتحي المتوّج وهو يعزف على القيثارة أو يقرع الأجراس الموسيقية، وإن لم تندثر صورة داوود الشاب تماماً، إلا أن خيال دوناتللو العبقري الجامح هو الذي رآه في صورة إله كلاسيكي ليس هو أبوللو بقدر ما هو ديونيسوس غلاماً، بابتسامته الحالمة ووضعته اللدنة. وتكاد رأس جالوت الملقاة تحت قدميه تكون هي رأس الساتير القديمة التي طالما رأيناها من حول ديونيسوس في تماثيله. ولا شك أن دوناتللو قد وقع بصره على أحد هذه التماثيل فزاوج بينها وبين أحد تماثيل أنتينوس الوسيم صفيّ الإمبراطور هادريانوس. غير أن هذه المصادر الكلاسيكية الواضحة التي أوحت إلى دوناتللو بتمثال داوود لا تنزع عنه كونه إنجازاً مبتكراً غير مسبوق في فنون تلك الحقبة. ومع ذلك فحتى نهاية القرن الذي ظهر فيه بقي تمثال داوود غريباً على الذوق الجاري المتعارف عليه، كما كان مختلفاً كل الاختلاف عن سائر منجزات دوناتللو نفسه التي برز فيها نحّاتاً ينزع إلى التعبير الدرامي عن المواقف الإنسانية والعاطفية أكثر مما يعنى بكمال الجسد الإنساني. . ورغم ذلك نحسّ أنه قد اهتم في تمثال داوود مثل أي فنان يوناني من القرن الرابع ق.م. بذلك التماسك بين أعضاء الجسد وبالانتقالات بين أحدها والآخر، وهو ما يضفي على أجساد الفتيان الجاذبية الحسية.

على أن خروج دناتللو على قانون النسب الكلاسيكي جليّ في غير حاجة إلى دليل، فلقد جسّد في تمثاله فتىً حقيقياً اتخذه نموذجاً يضيق صدره عن اتساع صدور النماذج اليونانية كما تبدو أجنابه أشدّ ما تكون محاكاة أمينة للواقعية، والراجح أن نموذجه كان أصغر سناً من الفتيان الإغريق الممثلين في التماثيل الكلاسيكية. وحتى إذا تجاوزنا عن هذه الفروق العرضية فثمّة فارق جوهري في التكوين البنائي نفسه، ففي تمثيل العُري الكلاسيكي يعلو البطن النمطية التشكيل دائماً صدرٌ مستطيل مسطّح بعض الشيء هو ما سبق وصفه "بالدرع الجمالي"، على حين غدا الخصر في تمثال داوود بل وفي معظم أجساد عصر النهضة العارية بؤرة الاهتمام التشكيلي وعنه تتفرّع كافة مسطّحات الجسم الأخرى، أو أنه كما أسلفتُ المركز الأوحد الذي تشعّ منه محاور متعدّدة. ومع ذلك فنادراً ما لاحظ معاصرو دوناتللو هذا الاختلاف في النسب والتكوين البنائي، بل لم يسترع انتباههم غير عودة ظهور الإله الوثني على يديه، حتى قيل عنه وعن برونليسكي إنهما من أعادا اكتشاف أسرار العالم القديم التي يأتي في مقدّمتها سرّ جمال الجسد الإنساني.

وثمّة أسباب عدّة لتفسير ظاهرة انقضاء نصف قرن قبل ظهور تمثال شبيه بتمثال داوود، أوّلها الردّة إلى القوطية التي ظهرت بفلورنسا في منتصف القرن الخامس عشر عندما شاعت بدعة نسجيّات الحائط الزخرفية المرسّمة واللوحات المصوّرة المفرطة التنميق الوافدة من الأراضي الواطئة في أعقاب نزعة البطولة الإنسانية التي مهّد لها كل من دوناتللو ومازاتشيو. وثانيهما هو المزاج القلق المتوارث بين الفلورنسيين الذي جعلهم يتّجهون بعيداً عن النموذج الأبوللوني المجسّد للسكينة والوقار نحو النماذج المضطرمة بالحركة الجيّاشة. وهكذا غلب على أعظم فناني الجسد العاري في القرن الخامس عشر وهما بولا يولو وبوتتشيللي الاهتمام بتجسيد الطاقة في عنفوانها، فتارة يصوّر بولا هرقل وهو يصارع خصمه وتارة يصور بوتتشيللي ملاكاً محلّقاً في الفضاء، باستثناء مرة واحدة صوّر فيها جسداً عارياً للقديس سباستيان تغمره السكينة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق